رمي الجمرات تجسيد لطرد الشيطان ونبذ وسوسته
في مثل هذه الأيام يشتد حنين المسلمين إلى البيت العتيق الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، فتتحرك جموعهم الغفيرة من شتى بقاع الأرض إلى المسجد الحرام ، ليشهدوا أعظم شعيرة تعبدية، وأضخم وحدة روحية، إنها فريضة الحج التي يجسد المسلم بها واقع العبودية الخالصة لربه، ويترجم مفهوم الاستجابة الحقة لخالقه، في أوامره ونواهيه، في مسعى كريم للتقرب من الله والتعرض لرحماته ورضوانه.
وحول هذا الموضوع يقول فضيلة الدكتور سليمان بن عبد الكريم المفرج – الحاصل على الدكتوراه في الإدارة التربوية وإمام وخطيب مسجد محمد بن عبد الوهاب بالمملكة العربية السعودية - أن الحج عبادة ترتقي بالمؤمن إلى أعلى منازل الإيمان، وأسمى مراتبه، وتنطلق به في مضمار جهاد لا قتال فيه، فتخلصه من ماضِ تراكمت فيه الأوزار، وتفاقمت فيه الآثام والخطايا، فيرجع المسلم إلى أصله بعد أداء حجه طاهر القلب، زكي النفس، نقي الوجدان، نظيف الباطن والظاهر، فالحج محرقة للذنوب، ومطهرة للقلوب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهنا بنفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد ) رواه أحمد والترمذي.
ويضيف الدكتور المفرج أن الله عز وجل يقول في محكم آياته : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29 الحج).
هذا ويؤكد فضيلة الشيخ المفرج أن الله قد أودع في مناسك الحج أرفع مظاهر التقديس وأجل آيات التوحيد؛ ففي لبس ثياب الإحرام يتجلى معنى التجرد والامتثال المطلق لدعوة الله رب العالمين، وفي الطواف حول البيت يتجلى معنى الالتفاف حول كلمة التوحيد، والدوران حول قطب الإيمان – الكعبة – التي يجتمع حولها المسلمون ليعلنوا توحيدهم لله، ونبذهم لكل صور الشرك ومظاهر الوثنية، يقول الله تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) البقرة 125 ، ويقول سبحانه : (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) المائدة 97.
وكذلك في السعي بين الصفا والمروة يتجلى معنى التردد بين عَلَمي الرحمة التماسا للعفو والرضوان، وفي الوقوف بعرفة يتجلى معني الضراعة، والتذلل إلى العزيز الحكيم بقلوب مملوء بالخشية، وأعين فياضة بالدمع، وألسنة منشغلة بالدعاء والابتهال.
كما أن في رمي الجمار تجسيد لمعنى طرد الشيطان، ونبذ لوسوساته، فالحج في جميع مناسكه تجسيد للمعنى المطلق للتوحيد، حيث يري الدكتور سليمان أن فريضة الحج تفيض بالأسرار والأنوار، ولعل أبرز وأهم حقيقة تتكشف عنها فريضة الحج هي الوحدة الروحية الشاملة التي تجمع في كنفها المسلمين من كافة ربوع الأرض، تلك الوحدة الروحية التي ينبغي أن تعصف بأسباب فرقتنا، وتعيد صياغة اتحاد أمتنا من جديد، صياغة تنصهر فيها مشاعرنا وأفكارنا في كيان واحد، فتزول فوارق العرق، والمادة، واللون بيننا، ونشعر بقيمة وعمق هذه الوحدة الروحية الشاملة في حياتنا، فنتحسس من خلالها آلام المسلمين المضطهدين والمستضعفين من حولنا، فالحج ميدان للتصحيح في كل أمور دنيانا، ومجال رحب لتعديل المسار، عسى الله أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
ويختتم د. سليمان المفرج
إن فريضة الحج هي أعظم مدرسة تربي في المسلم كل خلق قويم، وتصبغ أقواله وأفعاله بخصال الخير والبر والمعروف، حيث يجد نفسه وسط حشد هائل، تعددت أجناسه وأمزجته، واختلفت طرائق عيشه تبعا لاختلاف بيئاته وتنائي بلاده، فيجد المسلم نفسه ملزما بالتحلي بالأخلاق العالية ليحسن التعامل مع هذا التنوع البشري، حتى يكون المسلم صورة صادقة للنسق الأخلاقي الرفيع الذي جاء به الإسلام، مصداقا لقول الحق: ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ) البقرة 197 .